الأحد، 31 مارس 2013

القصيدة : أرى ذلك القرب صار ازورارا

مناسبة القصيدة 

قصيدة قالها أبو الطيب وكان سيف الدولة استبطأ مدحه وعاتبه مدة ثم لقيه في الميدان فأنكر أبو الطيب تقصيره فيما كان عوّده من الإقبال إليه والسلام عليه، فعاد إلى منزله وكتب إليه بهذه الأبيات.




أَرى ذَلِكَ القُربَ  صارَ  ازوِرارا   ...   وَصارَ  طَويلُ  السَلامِ  اختِصارا
 
تَرَكتَني    اليَومَ    في    خَجلَةٍ   ...   أَموتُ   مِرارًا   وَأَحيا    مِرارا
 
أُسارِقُكَ     اللَحظَ      مُستَحيِيًا   ...   وَأَزجُرُ في الخَيلِ مُهري  سِرارا

وَأَعلَمُ  أَنّي   إِذا   ما   اعتَذَرتُ   ...   إِلَيكَ   أَرادَ   اعتِذاري   اعتِذارا
 
وَلَكِن  حَمى  الشِعرَ  إِلّا   القَلي   ...   لَ  هَمٌّ  حَمى  النَومَ  إِلّا  غِرارا
كَفَرتُ      مَكارِمَكَ      الباهِرا   ...   تِ إِن  كانَ  ذَلِكَ  مِنّي  اختِيارا
وَما  أَنا  أَسقَمتُ   جِسمي   بِهِ   ...   وَما أَنا أَضرَمتُ في  القَلبِ  نارا

فَلا   تُلزِمَنّي   ذُنوبَ    الزَمانِ   ...   إِلَيَّ    أَساءَ    وَإِيّايَ     ضارا
 
وَعِندي   لَكَ   الشُرُدُ   السائِرا   ...   تُ لا يَختَصِصنَ مِنَ الأَرضِ دارا
قَوافٍ  إِذا  سِرنَ  عَن   مِقوَلي   ...   وَثَبنَ  الجِبالَ  وَخُضنَ   البِحارا
وَلي  فيكَ  ما   لَم   يَقُل   قائِلٌ   ...   وَما لَم  يَسِر  قَمَرٌ  حَيثُ  سارا
فَلَو  خُلِقَ  الناسُ  مِن  دَهرِهِمْ   ...   لَكانوا  الظَلامَ   وَكُنتَ   النَهارا
 
أَشَدُّهُمُ    في    النَدى     هِزَّةً   ...   وَأَبدُهُمْ    في    عَدُوٍّ     مُغارا
سَما  بِكَ  هَمِّيَ  فَوقَ   الهُمومِ   ...   فَلَستُ   أَعُدُّ    يَسارًا    يَسارا
 
وَمَن  كُنتَ  بَحرًا  لَهُ  يا  عَلِيـ   ...   يُ  لَم  يَقبَلِ   الدُرَّ   إِلّا   كِبارا

3:57 ص
السبت، 30 مارس 2013

القصيدة : أرق على أرق ومثلي يأرق


مناسبة القصيدة

قصيدة من أول ما كتب أبو الطيب في صباه.




أَرَقٌ    عَلى    أَرَقٍ    وَمِثلِيَ    يَأرَقُ   ...   وَجَوًى     يَزيدُ      وَعَبرَةٌ      تَتَرَقرَقُ
جَهدُ  الصَبابَةِ  أَن   تَكونَ   كَما   أُرى   ...   عَينٌ     مُسَهَّدَةٌ     وَقَلبٌ      يَخفِقُ
 
ما    لاحَ    بَرقٌ    أَو     تَرَنَّمَ     طائِرٌ   ...   إِلا    اِنثَنَيتُ    وَلي     فُؤادٌ     شَيِّقُ
جَرَّبتُ  مِن  نارِ  الهَوى   ما   تَنطَفي   ...   نارُ   الغَضى    وَتَكِلُّ    عَمّا    تُحرِقُ
وَعَذَلتُ  أَهلَ  العِشقِ   حَتّى   ذُقتُهُ   ...   فَعَجِبتُ كَيفَ يَموتُ  مَن  لا  يَعشَقُ

وَعَذَرتُهُمْ    وَعَرَفتُ    ذَنبِيَ     أَنَّني   ...   عَيَّرتُهُمْ    فَلَقيتُ    فيهِ    ما     لَقوا

أَبَني    أَبينا    نَحنُ     أَهلُ     مَنازِلٍ   ...   أَبَدًا    غُرابُ    البَينِ     فيها     يَنعَقُ
 
نَبكي  عَلى  الدُنيا  وَما  مِن  مَعشَرٍ   ...   جَمَعَتهُمُ     الدُنيا     فَلَم      يَتَفَرَّقوا
 
أَينَ    الأَكاسِرَةُ     الجَبابِرَةُ     الأُلى   ...   كَنَزوا  الكُنوزَ   فَما   بَقينَ   وَلا   بَقوا
 
مِن كُلِّ  مَن  ضاقَ  الفَضاءُ  بِجَيشِهِ   ...   حَتّى   ثَوى    فَحَواهُ    لَحدٌ    ضَيِّقُ
خُرسٌ  إِذا   نودوا   كَأَن   لَم   يَعلَموا   ...   أَنَّ    الكَلامَ    لَهُم    حَلالٌ     مُطلَقُ
 
وَالمَوتُ    آتٍ     وَالنُفوسُ     نَفائِسٌ   ...   وَالمُستَغِرُّ     بِما     لَدَيهِ     الأَحمَقُ
 
وَالمَرءُ     يَأمُلُ     وَالحَياةُ      شَهِيَّةٌ   ...   وَالشَيبُ    أَوقَرُ    وَالشَبيبَةُ     أَنزَقُ
 
وَلَقَد  بَكَيتُ  عَلى  الشَبابِ   وَلِمَّتي   ...   مُسوَدَّةٌ     وَلِماءِ     وَجهِيَ     رَونَقُ
 
حَذَرًا    عَلَيهِ    قَبلَ     يَومِ     فِراقِهِ   ...   حَتّى  لَكِدتُ   بِماءِ   جَفنِيَ   أَشرَقُ
 
أَمّا  بَنو  أَوسِ  بنِ  مَعنِ   بنِ   الرِضا   ...   فَأَعَزُّ    مَن    تُحدى    إِلَيهِ    الأَينُقُ
 
كَبَّرتُ    حَولَ    دِيارِهِم    لَمّا    بَدَت   ...   مِنها الشُموسُ وَلَيسَ فيها المَشرِقُ
 
وَعَجِبتُ  مِن  أَرضٍ  سَحابُ   أَكُفِّهِمْ   ...   مِن   فَوقِها   وَصُخورُها    لا    تورِقُ
 
وَتَفوحُ    مِن    طيبِ    الثَناءِ    رَوائِحٌ   ...   لَهُمُ     بِكُلِّ      مَكانَةٍ      تُستَنشَقُ
مِسكِيَّةُ      النَفَحاتِ       إِلا       أَنَّها   ...   وَحشِيَّةٌ     بِسِواهُمُ      لا      تَعبَقُ
 
أَمُريدَ   مِثلِ   مُحَمَّدٍ    في    عَصرِنا   ...   لا    تَبلُنا    بِطِلابِ    ما    لا    يُلحَقُ
 
لَم   يَخلُقِ   الرَحمَنُ    مِثلَ    مُحَمَّدٍ   ...   أَبَدًا     وَظَنّي     أَنَّهُ      لا      يَخلُقُ
 
يا   ذا   الَّذي   يَهَبُ   الجَزيلَ   وَعِندَهُ   ...   أَنّي      عَلَيهِ       بِأَخذِهِ       أَتَصَدَّقُ
 
أَمطِر   عَلَيَّ   سَحابَ   جودِكَ    ثَرَّةً   ...   وَاِنظُر    إِلَيَّ    بِرَحمَةٍ    لا     أَغرَقُ
 
كَذَبَ   اِبنُ    فاعِلَةٍ    يَقولُ    بِجَهلِهِ   ...   ماتَ    الكِرامُ    وَأَنتَ    حَيٌّ    تُرزَقُ



8:48 ص
الخميس، 28 مارس 2013

الشاعر الأسطورة يخطف الأضواء


تقدم معنا في المقالة السابقة (آية الله (المتنبي) محبوب الجماهير) الحديث عن زميلي وصديقي آية الله أبي الطيب المتنبي الشاعر الأسطورة، ونواصل الحديث عنه في استشهاد العلماء والساسة والأدباء والوجهاء بشعره.

لما انتهى زاهد الكوثري من بعض كتبه استشهد ببيت المتنبي:
وَما أَنا بِالباغي عَلى الحُبِّ رِشوَةً ... ضَعيف هَوىً يُبغى عَلَيهِ ثَوابُ

وذكر حسن البنا اختلاف الأزمان والأمكنة، ثم أنشد قول المتنبي:
هُوَ الجَدُّ حَتّى تَفضُلَ العَينُ أُختَها ... وَحَتّى يَصيرَ اليَومُ لِليَومِ سَيِّدا

* وذكر الدكتور عبد العزيز الثنيان في مقابلة في التلفزيون السعودي شوقه إلى التعليم، كما قال المتنبي:
نَحنُ أَدرى وَقَد سَأَلنا بِنَجدٍ ... أَقَصيرٌ طَريقُنا أَم يَطولُ
وَكَثيرٌ مِنَ السُؤالِ اِشتِياقٌ ... وَكَثيرٌ مِن رَدِّهِ تَعليل


وكلمني الدكتور عبد العزيز الحربي معجباً بقول المتنبي:
أُصادِقُ نَفسَ المَرءِ مِن قَبلِ جِسمِهِ ... وَأَعرِفُها في فِعلِهِ وَالتَكَلُّمِ

ودرسنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، فذكر سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال، كما قال المتنبي:
إِذا تَغَلغَلَ فِكرُ المَرءِ في طَرَفٍ ... مِن مَجدِهِ غَرِقَت فيهِ خَواطِرُهُ

وأسهب مرة في الشرح، ثم ذكر قول المتنبي:
وَقَد أَطالَ ثَنائي طولُ لابِسِهِ ... إِنَّ الثَناءَ عَلى التِنبالِ تِنبالُ

وزرت بيت العلم والأدب، بيت آل مبارك في الإحساء، فحياني أحد أدبائهم وقال: نحن كما قال المتنبي:
وَأَستَكبِرُ الأَخبارَ قَبلَ لِقائِهِ ... فَلَمّا اِلتَقَينا صَغَّرَ الخَبَرَ الخُبرُ

وهذا البيت قاله ابن الشجري للزمخشري لما لقيه، وذكر الحافظ ابن رجب أن الصادق لابد أن يظهر، وكذلك الكاذب، كما قال المتنبي:
إِذا اِشتَبَهَت دُموعٌ في خُدودٍ ... تَبَيَّنَ مَن بَكى مِمَّن تَباكى

وذكر الشوكاني في بعض رسائله قول المتنبي :
كُلِّ دَمعٍ يَسيلُ مِنها عَلَيها ... وَبِفَكِّ اليَدَينِ عَنها تُخَلّى

فتعجب من جودة البيت وسبح وكبر، وذكر الآلوسي قول المتنبي:
وَلا فَضلَ فيها لِلشَجاعَةِ وَالنَدى ... وَصَبرِ الفَتى لَولا لِقاءُ شَعوبِ

وذكر الدكتور علي الحكمي الحسن وضده، فقال كما قال المتنبي:
وَنَذيمُهُم وَبِهِم عَرَفنا فَضلَهُ ... وَبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأَشياءُ

وخطب بنا الشيخ عبد الرحمن السديس في الحرم في قطيعة الرحم، فاستشهد بقول المتنبي:
وَلَم تَزَل قِلَّةُ الإِنصافِ قاطِعَةً ... بَينَ الرِجالِ وَلَو كانوا ذَوي رَحِمِ

ولقيت طالب علم من سوريا، فسألته عن بلده فقال: أنا من بلدة ضمير، التي يقول فيها المتنبي:
لَئِن تَرَكنَ ضُمَيراً عَن مَيامِنِنا ... لَيَحدُثَنَّ لِمَن وَدَّعتُهُم نَدَمُ

وسألت الدكتور محسن العواجي عن حاله، فقال: كما قال المتنبي:
لَيتَ الغَمامَ الَّذي عِندي صَواعِقُهُ ... يُزيلُهُنَّ إِلى مَن عِندَهُ الدِيَمُ

وذكر الأديب السوداني الطيّب صالح بيت المتنبي متعجباً:
يُحَرِّمُهُ لَمعُ الأَسِنَّةِ فَوقَهُ ... فَلَيسَ لِظَمآنٍ إِلَيهِ وُصولُ

وأنشد الخطيب المفوه الدكتور عبد الوهاب الطريري على المنبر قول المتنبي:
كَم تَطلُبونَ لَنا عَيباً فَيُعجِزُكُم ... وَيَكرَهُ اللَهُ ما تَأتونَ وَالكَرَمُ

وذكر الأديب الخوارزمي بيت المتنبي مندهشاً منذهلاً متعجباً، وهو قوله:
أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي ... وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي

وذكر الأديب محيي الدين اللّذقاني أن الخليل بن أحمد اختار (العين) من بين حروف العربية، قال: وأنا أختار (الميم)، لأن المتنبي نظم عليه قصيدته التي منها:
أَرانِبُ غَيرَ أَنَّهُمُ مُلوكٌ ... مُفَتَّحَةٌ عُيونُهُمُ نِيامُ

ولقيت الشيخ/ محمد الشامي قاضي بيشة، وكان عالماً أديباً، فقال: ألا تعجب من قول المتنبي:
قِفي تَغرَمِ الأَولى مِنَ اللَحظِ مُهجَتي ... بِثانِيَةٍ وَالمُتلِفُ الشَيءَ غارِمُه

وألقيت بعض الأبيات على أحد الأدباء واعتذرت له بقول المتنبي:
مَلِكٌ مُنشِدُ القَريضِ لَدَيهِ ... واضِعُ الثَوبِ في يَدَي بَزّازِ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إني أدعو في سجودي بمضمون وبمعنى بيت المتنبي:
يا مَن أَلوذُ بِهِ فيما أُؤَمِّلُهُ ... لا يَجبُرُ الناسُ عَظماً أَنتَ كاسِرُهُ
وَمَن أَعوذُ بِهِ مِمّا أُحاذِرُهُ ... وَلا يَهيضونَ عَظماً أَنتَ جابِرُهُ

وتذاكرنا العشق مع الدكتور عبدالرحمن القحطاني، فقال: لا رأي للعاشق، كما قال المتنبي:
إِلامَ طَماعِيَةُ العاذِلِ ... وَلا رَأى في الحُبِّ لِلعاقِلِ

وذاكرت الدكتور الشاعر عبد الرحمن العشماوي في بدائع المتنبي، فذكر بيتين له مادحا ومثنياً، وهما قوله:
وَمُرادُ النُفوسِ أصغر مِن أَن ... نَتَعادى فيهِ وَأَن نَتَفانى
غَيرَ أَنَّ الفَتى يُلاقي المَنايا ... كالِحاتٍ وَلا يُلاقي الهَوانا

وذكر البرقوقي أن الناس في فهم المعاني درجات، تبعاً لتباين قرائحهم، كما قال المتنبي:
وَلَكِن تَأخُذُ الآذانُ مِنهُ ... عَلى قَدرِ القَرائِحِ وَالعُلومِ

وكنت أكتب عن النجاح، ومن طرقه عدم التكلف، فعثرت على بيت للمتنبي أغلى من حمر النعم، وهو قوله:
أَبلَغُ ما يُطلَبُ النَجاحُ بِهِ الـ ... طَبعُ وَعِندَ التَعَمُّقِ الزَلَلُ

وقال الدكتور سعد البريك: «إن العقل لا يدع صاحبه يتمتع بالملذات»، كما قال المتنبي:
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ ... وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ

وكنت أحادث الدكتور محمد الرومي، ابن سيرين العصر، في تعبير الرؤيا، وكان مصاباً بالحمى، فقلت له: «كيف حالك؟»، فقال: أنا كما قال المتنبي:
وَزائِرَتي كَأَنَّ بِها حَياءً ... فَلَيسَ تَزورُ إِلا في الظَلامِ

د. عائض القرني

                                     
4:14 ص
الجمعة، 22 مارس 2013

القصيدة : على قدر أهل العزم تأتي العزائم

مناسبة القصيدة 

سار سيف الدولة نحو ثغر الحرث لبنائها، وقد كان أهلها أسلموها بالأمان إلى الدمستق سنة سبع وثلاثين، فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الأولى سنة ثلاث وأربعين، وبدأ في يومه فخط الأساس وحفر أوله بيده ابتغاء ما عند الله جل ذكره. فلما كان يوم الجمعة نازله ابن الفقاس دمستق النصرانية في نحو خمسين ألف فارس وراجل من جموع الروم والأرمن والروس والبلغر والصقلب والخزرية، ووقعت الماصفة يوم الاثنين انسلاخ جمادي الآخرة من أول النهار إلى وقت العصر، وأن سيف الدولة حمل عليه بنفسه في نحو خمسمائة من غلمانه وأصناف رجاله فقصد موكبه وهزمه، وأظفره الله تعالى به وقتل نحو ثلاثة آلاف من مقاتلته، وأسر خلقاً من اسحاريته وأراخنته، فقتل أكثرهم واستبقى البعض، وأسر توذس الأعور بطريق سمندوبة ولقندوبه وهو مهر الدمستق على ابنته، وأسر ابن ابنة الدمستق، واقام على الحرث إلى أن بناها ووضع بيده آخر شرافة منها في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، فقال أبو الطيب هذه القصيدة.

                          


عَلى قَدرِ  أَهلِ  العَزمِ  تَأتي  العَزائِمُ   ...   وَتَأتي  عَلى  قَدرِ   الكِرامِ   المَكارِمُ
 
وَتَعظُمُ  في  عَينِ  الصَغيرِ  صِغارُها   ...   وَتَصغُرُ  في  عَينِ  العَظيمِ   العَظائِمُ
 
يُكَلِّفُ  سَيفُ  الدَولَةِ  الجَيشَ   هَمَّهُ   ...   وَقَد عَجَزَت عَنهُ  الجُيوشُ  الخَضارِمُ
 
وَيَطلِبُ  عِندَ  الناسِ  ما  عِندَ  نَفسِهِ   ...   وَذَلِكَ   ما   لا   تَدَّعيهِ    الضَراغِمُ
 
يُفَدّي   أَتَمُّ   الطَيرِ   عُمرًا   سِلاحَهُ   ...   نُسورُ   المَلا   أَحداثُها    وَالقَشاعِمُ
 
وَما   ضَرَّها   خَلقٌ   بِغَيرِ   مَخالِبٍ   ...   وَقَد    خُلِقَت    أَسيافُهُ     وَالقَوائِمُ
 
هَلِ  الحَدَثُ  الحَمراءُ  تَعرِفُ   لَونَها      وَتَعلَمُ    أَيُّ    الساقِيَينِ     الغَمائِمُ
 
سَقَتها   الغَمامُ   الغُرُّ   قَبلَ   نُزولِهِ   ...   فَلَمّا   دَنا   مِنها   سَقَتها   الجَماجِمُ
 
بَناها  فَأَعلى   وَالقَنا   تَقرَعُ   القَنا      وَمَوجُ    المَنايا    حَولَها    مُتَلاطِمُ
 
وَكانَ  بِها  مِثلُ  الجُنونِ   فَأَصبَحَتْ   ...   وَمِن  جُثَثِ   القَتلى   عَلَيها   تَمائِمُ
 
طَريدَةُ    دَهرٍ    ساقَها     فَرَدَدتَها   ...   عَلى  الدينِ  بِالخَطِّيِّ  وَالدَهرُ  راغِمُ
 
تُفيتُ   اللَيالي   كُلَّ   شَيءٍ   أَخَذتَهُ   ...   وَهُنَّ   لِما   يَأخُذنَ   مِنكَ   غَوارِمُ
 
إِذا  كانَ  ما  تَنويهِ  فِعلاً   مُضارِعًا   ...   مَضى قَبلَ  أَن  تُلقى  عَلَيهِ  الجَوازِمُ
 
وَكَيفَ تُرَجّي الرومُ وَالروسُ  هَدمَها   ...   وَذا  الطَعنُ   آساسٌ   لَها   وَدَعائِمُ
 
وَقَد   حاكَموها    وَالمَنايا    حَواكِمٌ   ...   فَما  ماتَ  مَظلومٌ  وَلا  عاشَ  ظالِمُ
 
أَتوكَ    يَجُرّونَ     الحَديدَ     كَأَنَّهُمْ   ...   سَرَوا   بِجِيادٍ    ما    لَهُنَّ    قَوائِمُ
 
إِذا  بَرَقوا  لَم  تُعرَفِ  البيضُ  مِنهُمُ   ...   ثِيابُهُمُ    مِن     مِثلِها     وَالعَمائِمُ
 
خَميسٌ بِشَرقِ الأَرضِ وَالغَربِ زَحفُهُ   ...   وَفي  أُذُنِ   الجَوزاءِ   مِنهُ   زَمازِمُ
 
تَجَمَّعَ    فيهِ    كُلُّ    لِسنٍ    وَأُمَّةٍ   ...   فَما   تُفهِمُ   الحُدّاثَ   إِلا    التَراجِمُ
 
فَلِلهِ   وَقتٌ   ذَوَّبَ    الغِشَّ    نارُهُ   ...   فَلَم  يَبقَ  إِلّا   صارِمٌ   أَو   ضُبارِمُ
 
تَقَطَّعَ  ما  لا  يَقطَعُ   الدِرعَ   وَالقَنا   ...   وَفَرَّ  مِنَ  الأَبطالِ  مَن   لا   يُصادِمُ
 
وَقَفتَ وَما  في  المَوتِ  شَكٌّ  لِواقِفٍ   ...   كَأَنَّكَ  في  جَفنِ  الرَدى  وَهوَ   نائِمُ
 
تَمُرُّ   بِكَ   الأَبطالُ   كَلمى   هَزيمَةً   ...   وَوَجهُكَ   وَضّاحٌ    وَثَغرُكَ    باسِمُ
 
تَجاوَزتَ  مِقدارَ  الشَجاعَةِ   وَالنُهى   ...   إِلى  قَولِ  قَومٍ  أَنتَ   بِالغَيبِ   عالِمُ
 
ضَمَمتَ جَناحَيهِمْ عَلى  القَلبِ  ضَمَّةً   ...   تَموتُ   الخَوافي   تَحتَها    وَالقَوادِمُ
 
بِضَربٍ أَتى الهاماتِ  وَالنَصرُ  غائِبُ   ...   وَصارَ  إِلى  اللَبّاتِ   وَالنَصرُ   قادِمُ
 
حَقَرتَ   الرُدَينِيّاتِ   حَتّى    طَرَحتَها   ...   وَحَتّى  كَأَنَّ  السَيفَ   لِلرُمحِ   شاتِمُ
 
وَمَن   طَلَبَ   الفَتحَ   الجَليلَ   فَإِنَّما   ...   مَفاتيحُهُ  البيضُ  الخِفافُ   الصَوارِمُ
 
نَثَرتَهُمُ    فَوقَ     الأُحَيدِبِ     نَثْرَةً   ...   كَما  نُثِرَت  فَوقَ  العَروسِ  الدَراهِمُ
 
تَدوسُ بِكَ الخَيلُ الوُكورَ عَلى  الذُرى   ...   وَقَد  كَثُرَتْ  حَولَ  الوُكورِ  المَطاعِمُ
 
تَظُنُّ   فِراخُ   الفُتخِ    أَنَّكَ    زُرتَها   ...   بِأُمّاتِها   وَهيَ    العِتاقُ    الصَلادِمُ
 
إِذا    زَلِقت     مَشَّيتَها     بِبِطونِها   ...   كَما  تَتَمَشّى  في   الصَعيدِ   الأَراقِمُ
 
أَفي  كُلِّ  يَومٍ  ذا   الدُمُستُقُ   مُقدِمٌ   ...   قَفاهُ   عَلى   الإِقدامِ   لِلوَجهِ    لائِمُ
 
أَيُنكِرُ   ريحَ   اللَيثَ   حَتّى    يَذوقَهُ   ...   وَقَد  عَرَفَتْ  ريحَ   اللُيوثِ   البَهائِمُ
 
وَقَد   فَجَعَتهُ   بِاِبنِهِ   وَاِبنِ   صِهرِهِ   ...   وَبِالصِهرِ  حَمْلاتُ  الأَميرِ   الغَواشِمُ
 
مَضى يَشكُرُ الأَصحابَ في فَوتِهِ الظُبا   ...   بِما   شَغَلَتها   هامُهُمْ    وَالمَعاصِمُ
 
وَيَفهَمُ   صَوتَ    المَشرَفِيَّةِ    فيهِمُ   ...   عَلى  أَنَّ  أَصواتَ  السُيوفِ   أَعاجِمُ
 
يُسَرُّ  بِما  أَعطاكَ  لا   عَن   جَهالَةٍ   ...   وَلَكِنَّ   مَغنومًا   نَجا   مِنكَ    غانِمُ
 
وَلَستَ    مَليكًا    هازِمًا     لِنَظيرِهِ   ...   وَلَكِنَّكَ    التَوحيدُ    لِلشِركِ    هازِمُ
 
تَشَرَّفُ   عَدنانٌ   بِهِ    لا    رَبيعَةٌ   ...   وَتَفتَخِرُ   الدُنيا   بِهِ   لا    العَواصِمُ
 
لَكَ الحَمدُ في  الدُرِّ  الَّذي  لِيَ  لَفظُهُ   ...   فَإِنَّكَ     مُعطيهِ      وَإِنِّيَ      ناظِمُ
 
وَإِنّي لَتَعدو بي عَطاياكَ  في  الوَغى   ...   فَلا   أَنا   مَذمومٌ   وَلا   أَنتَ   نادِمُ
 
عَلى   كُلِّ    طَيّارٍ    إِلَيها    بِرِجلِهِ   ...   إِذا  وَقَعَت  في   مِسمَعَيهِ   الغَماغِمُ
 
أَلا  أَيُّها  السَيفُ  الَّذي  لَيسَ  مُغمَدًا   ...   وَلا  فيهِ  مُرتابٌ  وَلا  مِنهُ   عاصِمُ
 
هَنيئًا  لِضَربِ  الهامِ  وَالمَجدِ  وَالعُلا   ...   وَراجيكَ    وَالإِسلامِ    أَنَّكَ    سالِمُ
 
وَلِم لا يَقي الرَحمَنُ  حَدَّيكَ  ما  وَقى   ...   وَتَفليقُهُ   هامَ    العِدا    بِكَ    دائِمُ


2:07 م

آية الله (المتنبي) محبوب الجماهير


صار زميلي وصديقي آية الله أبو الطيب المتنبي أسطورة في عالم الشعر، فكل الكبار من العلماء والأدباء والساسة والمفكرين والفلاسفة والمصنفين يلهجون بشعره لسحره وأسره وقوته وتأثيره ولموعه وسطوعه وذيوعه وشيوعه.

 أمر الرئيس الفرنسي السابق جورج بومبيدو بأن يكتب على الدبابات الفرنسية ترجمة بيت المتنبي:
 وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئاً ... كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ.

وقال الكاتب الشهير اليهودي النمساوي المسلم محمد أسد في كتابه (الطريق إلى مكة): إن بعض الأدباء شاهد أمير حايل عبد العزيز بن مساعد في عهد الملك عبد العزيز، فتمثل بقول المتنبي:
 قَد زُرتُهُ وَسُيوفُ الهِندِ مُغمَدَة ... وَقَد نَظَـرتُ إِلَيهِ وَالسُيـوفُ دَمُ
 فَكانَ أَحسَـنَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ ... وَكانَ أَحسَنَ مافي الأَحسَنِ الشِيَمُ.

وكتب ابن تاشفين ملك المرابطين إلى ملك النصارى بيت المتنبي:
 وَلا كُتبَ إِلاّ المَشرَفِيَّةُ عِندَهُ ... وَلا رُسُل إِلاّ الخَميسُ العَرَمرَم.

وقال ابن الجوزي في «صيد الخاطر»: الدنيا لا يفي سرورها بهمها، كما قال المتنبي:
 أَشَدُّ الغَمِّ عِندي في سُرورٍ ... تَيَقَّنَ عَنهُ صاحِبُهُ اِنتِقالا.

وقال ابن القيم: من أدمن المعاصي هانت عليه نفسه، كما قال المتنبي:
 مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ ... ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ.

وذكر الغزالي في «الإحياء» أن الإنسان لابد له من الموت بعز أو بذل، كما قال المتنبي:
 وَإِلاّ تَمُت تَحتَ السُيوفِ مُكَرَّماً ... تَمُت وَتُقاسِ الذُلَّ غَيرَ مُكَرَّمِ.

وذكر ابن كثير أن الشدائد طريق المجد، كما قال المتنبي:
 لَولا المَشَقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ ... الجودُ يُفقِرُ وَالإِقدامُ قَتّالُ.

وذكر طه حسين وفاءه، كما قال المتنبي:
 خُلِقتُ أَلوفاً لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا ... لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا.

وقال متولي الشعراوي: القمم تحتاج إلى الهمم، كما قال المتنبي:
 عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ... وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ.

وذكر الشيخ ابن باز سوء الظن، فقال كما قال المتنبي:
 إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ ... وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ.

وفي كتاب ابن عثيمين (الدماء الطبيعية) قول المتنبي:
 فَإِن تَفُقِ الأَنامَ وَأَنتَ مِنهُم ... فَإِنَّ المِسكَ بَعضُ دَمِ الغَزالِ.

وزرت ابن عثيمين في مرضه الأخير، فقال: ما أخبار الشعر يا فلان يقصدني، فقلت كما قال المتنبي:
 المَجدُ عوفِيَ إِذ عوفِيتَ وَالكَرَمُ ... وَزالَ عَنكَ إِلى أَعدائِكَ الأَلَمُ.

وذكر ابن حزم أن أباه الوزير دخل عليه عدو الله وقال له، أنا وأنت كما قال المتنبي:
 وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ أَن يَرى ... عَدُوّاً لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ.
فقال أبوه: بل الصحيح
 ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... صديقاً له ما من عداوته بد.

وقال أحد العلماء: إن المسلم على حال واحدة في الرخاء والشدة، كما قال المتنبي:
 وَحالاتُ الزَمانِ عَلَيكَ شَتّى ... وَحالُكَ واحِدٌ في كُلِّ حالِ.

وسمعت الدكتور القصيبي في (العربية) يستشهد بقول المتنبي:
 إِنَّما تُنجِحُ المَقالَةُ في المَرءِ ... إِذا صادَفَت هَوىً في الفُؤادِ.

وسمعت الدكتور سلمان العودة في إضاءات، يتكلم عن كلام الحساد، كما قال المتنبي فقال:
 أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها ... وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ.

وذكر الدكتور عبدالعزيز المقحم الاستفادة من أخطاء الآخرين، فقال كما قال المتنبي:
 بِذا قَضَتِ الأَيّامُ مابَينَ أَهلِها ... مَصائِبُ قَومٍ عِندَ قَومٍ فَوائِدُ.

وحضرت مجلس تاجر يتمدح بالجود وهو لم يفعل، فقال أحد طلبة العلم من الحضور: المسألة كما قال المتنبي:
 جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ ... مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ.

وذكر الدكتور القصيبي أن الأمير فيصل بن فهد اتصل به يسأله عن بيت المتنبي في سيف الدولة، حيث يقول:
 وَكَيفَ تُعِلُّكَ الدُنيا بِشَيءٍ ... وَأَنتَ لِعِلَّةِ الدُنيا طَبيبُ.

وذكرت لأحد الأعيان كلام الحساد فقال لي، كما قال المتنبي:
 وَلِلَّهِ سِرٌّ في عُلاكَ وَإِنَّما ... كَلامُ العِدا ضَربٌ مِنَ الهَذَيانِ.

وطلب الإمام محمد عبده في مصر من الشعراء معارضة قصيدة المتنبي:
 أَقَلُّ فَعالي بَلهَ أَكثَرَهُ مَجدُ ... وَذا الجِدُّ فيهِ نِلتُ أَم لَم أَنَل جَدُّ.

وافتتح عمرو موسى القمة العربية في تونس، فذكر قول المتنبي:
 الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ ... هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني.

وسب الشريف المرتضى المتنبي عند أبي العلاء المعري، فقال له أبو العلاء معرضا به:
لا تسبه أيها الأمير فهو صاحب قصيدة: لكِ يا منازل في القلوب منازل، فغضب الأمير وقال: قاتلك الله، تقصد آخر القصيدة:
 وَإِذا أَتَتكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ ... فَهِيَ الشَهادَةُ لي بِأَنِّيَ كامِلُ.

وقال الدكتور سعيد بن مسفر: العز وحسن الصحبة في مقاله المتنبي:
 أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنا سَرجُ سابِحٍ ... وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ.


وسألت الشيخ العلامة عبدالعزيز الزهراني، وقد بلغ الثمانيـن: كيف حيــاتك؟ فقال كما قال المتنبي:
 قَد ذُقتُ شِدَّةَ أَيّامي وَلَذَّتَها ... فَما حَصَلتُ عَلى صابٍ وَلا عَسَلِ.

وزرت أبها فلقيت زميلي الدكتور محمد الحازمي، فقال: أنا وإياك كما قال المتنبي:
 وَلَيسَ الَّذي يَتَّبَّعُ الوَبلَ رائِداً ... كَمَن جاءه في دَارِهِ رائِدُ الوَبلِ.

وقال الأستاذ تركي الدخيل في جريدة الوطن: قال آية الله المتنبي في السر:
                                          وَلِلسِرِّ مِنّي مَوضِعٌ لا يَنالُهُ ... نَديمٌ وَلا يُفضي إِلَيهِ شَرابُ.

                               د. عائض القرني









5:59 ص
الثلاثاء، 19 مارس 2013

القصيدة : واحر قلباه ممن قلبه شبم

مناسبة القصيدة  

كان سيف الدولة إذا تأخر عنه مدحه شق عليه وأكثر من أذاه، وأحضر من لا خير فيه، وتقدم إليه بالتعريض له في مجلسه بما لا يحب، فلا يجيب أبو الطيب أحداً عن شيء، فيزيد بذلك في غيظ سيف الدولة. ويتمادى أبو الطيب في ترك قول الشعر، ويلح سيف الدولة فيما يستعمله من هذا القبيح. وزاد الأمر على أبي الطيب، وأكثر عليه مرة بعد أخرى، فقال أبو الطيب وأنشده هذه القصيدة في محفل من العرب والعجم. 
               
                                                     
                                                                             
 واحَرَّ   قَلباهُ   مِمَّن    قَلبُهُ    شَبِمُ   ...   وَمَن  بِجِسمي  وَحالي  عِندَهُ   سَقَمُ
  
مالي  أُكَتِّمُ  حُبًّا  قَد   بَرى   جَسَدي   ...   وَتَدَّعي  حُبَّ  سَيفِ   الدَولَةِ   الأُمَمُ
  
إِن   كانَ   يَجمَعُنا    حُبٌّ    لِغُرَّتِهِ   ...   فَلَيتَ   أَنّا   بِقَدرِ    الحُبِّ    نَقتَسِمُ
  
قَد  زُرتُهُ   وَسُيوفُ   الهِندِ   مُغمَدَةٌ   ...   وَقَد   نَظَرتُ   إِلَيهِ   وَالسُيوفُ   دَمُ
  
فَكانَ   أَحسَنَ   خَلقِ   اللَهِ    كُلِّهِمِ   ...   وَكانَ أَحسَنَ ما في  الأَحسَنِ  الشِيَمُ
  
فَوتُ   العَدُوِّ   الَّذي   يَمَّمتَهُ    ظَفَرٌ   ...   في   طَيِّهِ   أَسَفٌ   في   طَيِّهِ   نِعَمُ
  
قَد نابَ عَنكَ شَديدُ الخَوفِ وَاِصطَنَعَت   ...   لَكَ  المَهابَةُ  ما  لا   تَصنَعُ   البُهَمُ
  
أَلزَمتَ  نَفسَكَ  شَيئًا  لَيسَ   يَلزَمُها   ...   ألا   يُوارِيَهُم   أَرضٌ    وَلا    عَلَمُ
  
أَكُلَّما  رُمتَ   جَيشًا   فَاِنثَنى   هَرَبًا   ...   تَصَرَّفَت   بِكَ   في   آثارِهِ    الهِمَمُ
  
عَلَيكَ   هَزمُهُمُ   في   كُلِّ   مُعتَرَكٍ   ...   وَما  عَلَيكَ  بِهِم  عارٌ  إِذا  اِنهَزَموا
  
أَما  تَرى  ظَفَرًا  حُلوًا  سِوى   ظَفَرٍ   ...   تَصافَحَت  فيهِ  بيضُ  الهِندِ   وَاللِمَمُ
  
يا  أَعدَلَ  الناسِ  إِلا  في   مُعامَلَتي   ...   فيكَ الخِصامُ  وَأَنتَ  الخَصمُ  وَالحَكَمُ
  
أُعيذُها    نَظَراتٍ    مِنكَ     صادِقَةٍ   ...   أَن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ  وَرَمُ
  
وَما   اِنتِفاعُ   أَخي   الدُنيا   بِناظِرِهِ   ...   إِذا  اِستَوَت  عِندَهُ   الأَنوارُ   وَالظُلَمُ
  
أَنا  الَّذي  نَظَرَ  الأَعمى  إِلى   أَدَبي   ...   وَأَسمَعَت  كَلِماتي  مَن   بِهِ   صَمَمُ
  
أَنامُ  مِلءَ  جُفوني  عَن   شَوارِدِها   ...   وَيَسهَرُ   الخَلقُ   جَرّاها   وَيَختَصِمُ
  
وَجاهِلٍ  مَدَّهُ   في   جَهلِهِ   ضَحِكي   ...   حَتّى    أَتَتهُ    يَدٌ    فَرّاسَةٌ     وَفَمُ
  
إِذا   نَظَرتَ   نُيوبَ   اللَيثِ    بارِزَةً   ...   فَلا   تَظُنَّنَّ    أَنَّ    اللَيثَ    مُبتَسِمُ
  
وَمُهجَةٍ  مُهجَتي  مِن  هَمِّ  صاحِبِها   ...   أَدرَكتُها    بِجَوادٍ     ظَهرُهُ     حَرَمُ
  
رِجلاهُ في الرَكضِ رِجلٌ  وَاليَدانِ  يَدٌ   ...   وَفِعلُهُ   ما   تُريدُ   الكَفُّ    وَالقَدَمُ
  
وَمُرهَفٍ  سِرتُ  بَينَ  الجَحفَلَينِ  بِهِ   ...   حَتّى  ضَرَبتُ  وَمَوجُ  المَوتِ  يَلتَطِمُ
  
فَالخَيلُ   وَاللَيلُ   وَالبَيداءُ   تَعرِفُني   ...   وَالسَيفُ وَالرُمحُ  وَالقِرطاسُ  وَالقَلَمُ
  
صَحِبتُ في الفَلَواتِ  الوَحشَ  مُنفَرِدًا   ...   حَتّى  تَعَجَّبَ   مِنّي   القورُ   وَالأَكَمُ
  
يا  مَن  يَعِزُّ   عَلَينا   أَن   نُفارِقَهُمْ   ...   وِجدانُنا   كُلَّ   شَيءٍ   بَعدَكُم   عَدَمُ
  
ما   كانَ   أَخلَقَنا   مِنكُم    بِتَكرُمَةٍ   ...   لَو  أَنَّ   أَمرَكُمُ   مِن   أَمرِنا   أَمَمُ
  
إِن  كانَ  سَرَّكُمُ  ما   قالَ   حاسِدُنا   ...   فَما   لِجُرحٍ    إِذا    أَرضاكُمُ    أَلَمُ
  
وَبَينَنا   لَو   رَعَيتُم   ذاكَ    مَعرِفَةٌ   ...   إِنَّ  المَعارِفَ  في  أَهلِ  النُهى  ذِمَمُ
  
كَم   تَطلُبونَ   لَنا   عَيبًا   فَيُعجِزُكُمْ   ...   وَيَكرَهُ   اللَهُ   ما   تَأتونَ   وَالكَرَمُ
  
ما أَبعَدَ العَيبَ وَالنُقصانَ عَن  شَرَفي   ...   أَنا  الثُرَيّا   وَذانِ   الشَيبُ   وَالهَرَمُ
  
لَيتَ  الغَمامَ  الَّذي  عِندي  صَواعِقُهُ   ...   يُزيلُهُنَّ   إِلى   مَن    عِندَهُ    الدِّيَمُ
  
أَرى  النَوى  تَقتَضيني  كُلَّ   مَرحَلَةٍ   ...   لا   تَستَقِلُّ   بِها   الوَخّادَةُ   الرُّسُمُ
  
لَئِن  تَرَكنَ   ضُمَيرًا   عَن   مَيامِنِنا   ...   لَيَحدُثَنَّ     لِمَن     وَدَّعتُهُم     نَدَمُ
  
إِذا  تَرَحَّلتَ  عَن  قَومٍ  وَقَد   قَدَروا   ...   ألا    تُفارِقَهُمْ    فَالراحِلونَ     هُمُ
  
شَرُّ  البِلادِ  بلادٌ   لا   صَديقَ   بِهِا   ...   وَشَرُّ ما  يَكسِبُ  الإِنسانُ  ما  يَصِمُ
  
وَشَرُّ  ما   قَنَصَتهُ   راحَتي   قَنَصٌ   ...   شُهبُ  البُزاةِ  سَواءٌ   فيهِ   وَالرَّخَمُ
  
بِأَيِّ   لَفظٍ   تَقولُ   الشِعرَ   زِعنِفَةٌ   ...   تَجوزُ  عِندَكَ  لا  عُربٌ  وَلا   عَجَمُ
  
هَذا    عِتابُكَ    إِلا     أَنَّهُ     مِقَةٌ   ...   قَد   ضُمِّنَ   الدُرَّ   إِلا    أَنَّهُ    كَلِمُ

6:35 ص
الأحد، 17 مارس 2013

نبذة عن المتنبي


فلسفة الحياة لدى شاعر الحكمة والطموح

أبو الطيب المتنبي، أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، صاحب كبرياء وشجاع طموح محب للمغامرات. في شعره اعتزاز بالعروبة، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني. لنتعرف على هذا الشاعر العظيم ونقترب أكثر من سيرة حياته:

ظهور الموهبة الشعرية:

هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي. ولد في كندة بالكوفة سنة 303 هـ=915 م. وتقع حالياً على مسافة عشرة كيلومترات من النجف وخمسة وستون من كربلاء تقريباً. يقال إن والده الحسين سماه أحمد و لقبه بأبي الطيب، ويقال إنه لم يعرف أمه لموتها وهو طفل فربته جدته لأمه. قضى طفولته في كندة (304-308 هـ= 916-920م)، اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً، فقال الشعر صبياً، وهو في حوالي العاشرة، وبعض ما كتبه في هذه السن موجود في ديوانه. في الثانية عشر من عمره رحل إلى بادية السماوة، أقام فيها سنتين يكتسب بداوة اللغة العربية وفصاحتها، ثم عاد إلى الكوفة حيث أخذ يدرس بعناية الشعر العربي، وبخاصة شعر أبي نواس وابن الرومي ومسلم بن الوليد وابن المعتز. وعني على الأخص بدراسة شعر أبي تمام وتلميذه البحتري. انتقل إلى الكوفة والتحق بكتاب (309-316 هـ=921-928م) يتعلم فيه أولاد أشراف الكوفة دروس العلوية شعراً ولغة وإعراباً. اتصل في صغره بأبي الفضل في الكوفة، وكان من المتفلسفة، فهوسه وأضله. كان أبو الطيب سريع الحفظ، فقيل أنه حفظ كتاباً نحو ثلاثين ورقة من نظرته الأولى إليه.

من البادية إلى السجن:

لم يستقر أبو الطيب في الكوفة، اتجه خارجاً ليعمق تجربته في الحياة وليصبغ شِعره بلونها، أدرك بما يتملك من طاقات وقابليات ذهنية أن مواجهة الحياة في آفاق أوسع من آفاق الكوفة تزيد من تجاربه ومعارفه، فرحل إلى بغداد برفقة والده، وهو في الرابعة عشرة من عمره، قبل أن يتصلب عوده، وفيها تعرف على الوسط الأدبي، وحضر بعض حلقات اللغة والأدب، ثم احترف الشعر ومدح رجال الكوفة وبغداد. غير أنه لم يمكث فيها إلا سنة، ورحل بعدها برفقة والده إلى بادية الشام يلتقي القبائل والأمراء هناك، يتصل بهم و يمدحهم، فتقاذفته دمشق وطرابلس واللاذقية وحمص. دخل البادية فخالط الأعراب، وتنقل فيها يطلب الأدب واللغة العربية وأيام الناس، وفي بادية الشام التقي القبائل والأمراء، اتصل بهم ومدحهم، وتنقل بين مدن الشام يمدح شيوخ البدو والأمراء والأدباء. قيل أنه تنبأ في بادية السماوة بين الكوفة والشام فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد، فأسره وسجنه سنة 323-324 هجرية، حتى تاب ورجع عن دعواه. كان السجن علامة واضحة في حياته وجداراً سميكاً اصطدمت به آماله وطموحاته، فأخذ بعد خروجه منه منهك القوى يبحث عن فارس قوى يتخذ منه مساعداً لتحقيق طموحاته. عاد مرة أخرى يعيش حياة التشرد والقلق، فتنقل من حلب إلى أنطاكية إلى طبرية.

شاعر لا يقل عن الأمير منزلة:

وفيها التقى ببدر بن عمار سنة 328 هجرية، وهو أول من قتل أسداً بالسوط، فنعم عنده حقبة من الزمن، راضياً بما لقيه عنده من الراحة بعد التعب والاستقرار بعد التشرد، إلا أنه أحس بالملل في مقامه وشعر بأنه لم يلتق بالفارس الذي كان يبحث عنه والذي يشاركه في ملاحمه وتحقيق آماله. فعاوده الضجر الذي ألفه والقلق الذي لم يفارقه، فسقم من حياة الهدوء ووجد فيها ما يستذل كبرياءه. فهذا الأمير يحاول أن يتخذ منه شاعراً متكسباً كسائر الشعراء، وهو لا يريد لنفسه أن يكون شاعر أمير، وإنما يريد أن يكون شاعراً فارساً لا يقل عن الأمير منزلة. فلم يفقده السجن كل شيء لأنه بعد خروجه منه استعاد إرادته وكبرياءه. فالسجن أسهم في تعميق تجربته في الحياة، وتنبيهه إلى أنه ينبغي أن يقف على أرض صلبة لتحقيق ما يريده من طموح. لذلك أخذ يبحث عن نموذج الفارس القوي الذي يشترك معه لتنفيذ ما يرسمه في ذهنه. أما بدر فلم يكن هو ذاك، ثم ما كان يدور بين حاشية بدر من الكيد لأبي الطيب ومحاولة الإبعاد بينهما، جعل أبا الطيب يتعرض لمحن من الأمير ومن الحاشية تريد تقييده بإرادة الأمير. لقد رأى ذلك إهانة وإذلالاً، عبّر عنه بنفس جريحة ثائرة بعد فراقه لبدر متصلاً بصديق له هو أبو الحسن علي بن أحمد الخراساني في قوله : لا افتخار إلا لمن لا يضام. وعاد المتنبي بعد فراقه لبدر إلى حياة التشرد والقلق ثانية، وعبر عن ذلك أصدق تعبير في رائيته التي هجا بها ابن كروس الأعور أحد الكائدين له عند بدر.

الاندفاع المخلص نحو سيف الدولة:

ظل باحثاً عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 ه، وعن طريقه اتصل بسيف الدولة بن حمدان، صاحب حلب، سنة 337 ه، انتقل معه إلى حلب فمدحه وحظي عنده. في مجلس هذا الأمير وجد أفقه وسمع صوته، وأحس أبو الطيب بأنه عثر على نموذج الفروسية الذي كان يبحث عنه، وسيكون مساعده على تحقيق ما كان يطمح إليه، فاندفع الشاعر مع سيف الدولة يشاركه في انتصاراته. ففي هذه الانتصارات أروع ملاحمه الشعرية، استطاع أن يرسم هذه الحقبة من الزمن وما كان يدور فيها من حرب أو سلم، فانشغل انشغالاً عن كل ما يدور حوله من حسد وكيد، ولم ينظر إلا إلى صديقه وشريكه سيف الدولة. فلا حجاب ولا واسطة بينهما. شعر سيف الدولة بهذا الاندفاع المخلص من الشاعر، واحتمل منه ما لا يحتمل من غيره من الشعراء، وكان هذا كبيراً على حاشية الأمير. ازداد أبو الطيب اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة استطاع أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرماً مميزاً عن غيره من الشعراء. وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده، إلى أنه مطمئن إلى إمارة عربية يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعداً وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه. ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية، إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.

خيبة الأمل وجرح الكبرياء:

وهذا ما كان يغري حساده به فيستغلونه ليوغروا صدر سيف الدولة عليه حتى أصابوا بعض النجاح. وأحس الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير. وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر وصديقه الأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما. وأحس أبو الطيب بأن السقف الذي أظله أخذ يتصدع، وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالوية عليه بحضور سيف الدولة ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 ه ومنها: لا تطلبن كريماً بعد رؤيته. فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلباً، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة من مصر حتى كادت الصلة تعود بينهما.

الممدوح الجديد:

فارق أبو الطيب حلباً إلى مصر وفي قلبه غضب كثير، وكأنه يضع خطة لفراقها ثم الرجوع إليها كأمير عاملاً حاكماً لولاية يضاهي بها سيف الدولة، ويعقد مجلساً يقابل سيف الدولة. من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي وأظنه هو أقوى الدوافع. دفع به للتوجه إلى مصر حيث كافور الذي يمتد بعض نفوذه إلى ولايات بلاد الشام. في مصر واجه بيئة جديدة ومجتمعاً آخر وظروفاً اضطرته إلى أن يتنازل في أول الأمر عما لم يتنازل عنه. ثم هو عند ملك لا يحبه، ولم يجد فيه البديل الأفضل من سيف الدولة إلا أنه قصده آملاً، ووطن نفسه على مدحه راضياً لما كان يربطه في مدحه من أمل الولاية، وظل صابراً محتملاً كل ذلك. وأخذ يخطط إلى أمله الذي دفعه للمجيء إلى هنا، ويهدأ كلما لاح بريق السعادة في الحصول على أمله، وهو حين يراوده نقيض لما يراه من دهاء هذا الممدوح الجديد ومكره يحس بالحسرة على فراقه صديقه القديم. في هذه البيئة الجديدة أخذ الشعور بالغربة يقوى في نفسه بل أخذ يشعر بغربتين غربته عن الأهل والأحبة، وعما كان يساوره من الحنين إلى الأمير العربي سيف الدولة. ويزداد ألمه حين يرى نفسه بين يدي غير عربي، إلا أنه حين يتذكر جرح كبريائه يعقد لسانه ويسكت. وغربته الروحية عمن حوله والتي كان يحس بها في داخله إحساساً يشعره بالتمزق في كثير من الأحيان. وظل على هذا الحال لا تسكته الجائزة، ولا يرضيه العطاء، وظل يدأب لتحقيق ما في ذهنه ويتصور أنه لو حصل عليها لحقق طموحه في مجلس كمجلس سيف الدولة تجتمع فيه الشعراء لمدحه، فيستمع لمديحه وإكباره على لسان الشعراء، بدلاً من أن يؤكد كبرياءه هو على لسانه. ولربما كان يريد إطفاء غروره بهذا. إلا أن سلوكه غير المداري وعفويته مثلت باباً سهلاً لدخول الحساد والكائدين بينه وبين الحاكم الممدوح، ثم حدته وسرعة غضبه وعدم السيطرة على لسانه. كان كل ذلك يوقعه في مواقف تؤول عليه بصور مختلفة وفق تصورات حساده ومنافسيه. وأكاد أعتقد أنه كان مستعداً للتنازل عن كل جوائزه وهباته لمن كان يتصور أنه كان يريد أن يتربع على عرش الشعر من أجل جائزة كافور وعطائه، ثم يصوره بصورة تشوه إحساسه وتزور مشاعره. وذلك هو الذي يغيظه ويغضبه ويدفعه إلى التهور أحياناً وإلى المواقف الحادة. كل ذلك يأخذ طابعاً في ذهن الحاكم مغايراً لما في ذهن الشاعر.

صريح في الرضا والسخط:

بدأت المسافة تتسع بينه وبين كافور، وكلما اتسعت كثر في مجالها الحاسدون والواشون، وكلما أحس الشاعر ولو وهما بانزواء كافور عنه تيقظت لديه آفاق جديدة لغربته، وثارت نفسه وأحس بالمرارة إحساساً حاداً. لقد أحس بأنه لم يطلب فوق حقه ولم يتصرف بما هو خطأ، لأنه لم يصدر منه تجاوز على حق أحد. إلا أن هذا التصور البريء في ذهن الشاعر بعيد عن واقع الصورة التي في ذهن حاشية كافور. وما يصل إلى كافور من أقوال عن الشاعر، وعادة المتملقين من الوجهاء يتوصلون إلى الحاكم بواسطة حاشيته وإغراء بعض أفرادها بأن يكونوا جسوراً بينهم وبين سيدهم. هذه الجسور قد تقطع عند الحاجة بين الحاكم وبين خصومهم. أما أبو الطيب فلم يحسن هذا اللون من التظاهر ولم يفكر فيه، وإنما كان صريحاً بكل شيء في رضاه وسخطه صريحاً بما يرغب دون احتيال ولا محاورة، فما دام يشعر بالحق طالب به دون تأجيل. هذه الصراحة كثيراً ما أوقعته في مواقف حرجة، عند سيف الدولة، وهنا أيضاً عند كافور. لذا صارت للمتنبي صورة سلبية في نفس كافور، وخشي على ملكه إذا أعطاه ما يمكنه من ذلك. ظل أبو الطيب يرغب ويلح في طلبه، وظل كافور يداوره ويحاوره. كافور يحسن الاحتيال والمداورة وأبو الطيب صريح لا يحسن من ذلك شيئاً حتى وصل إلى حالة لم يستطع بعدها أن يبقى صامتاً. وشعر كافور برغبته في مغادرته فظن أن تشديد الرقابة عليه وإغلاق الحدود دونه سيخيفه ويمنعه من عزمه، ويخضعه كما يفعل مع غيره من الشعراء بالترهيب حيناً والذهب حيناً آخر. إلا أن أبا الطيب لم يعقه ذلك كله عن تنفيذ ما عزم عليه بعد أن أحس باليأس من كافور، وندم على ما فعل بنفسه في قصده إياه، وهو عند أكثر أصدقائه إخلاصاً وحباً. وظل يخطط إلى الهرب ويصر على تحدي كافور ولو بركوب المخاطر حتى وجد فرصته في عيد الأضحى. وخرج من مصر، وهجاً كافوراً بأهاجيه المرة الساخرة. إن تحديه لكافور في هروبه وركوبه كل المخاطر، ثم هذه الطاقة المتفجرة من السخط والغضب في هجائه يدل على مبلغ اليأس والندم في نفسه، ويبدو أنه كان حائراً حين فارق سيف الدولة، وحاول أن يمنع نفسه من التوجه إلى كافور. إلا أنه رجح أمر توجهه إلى مصر بعد إطالة فكر. ويبدو أنه فكر بهذه النتيجة اليائسة من ملك مصر أراد أن يتقدم من نفسه على ارتكابه خطيئة التوجه إليه واحتمالها مدحه، والتقيد بأوامره حينا. فهو حاول بأي وجه أن يشعر بالانتصار على هذه السلطة، عندما تحداه في هروبه، وفخره بالشجاعة والفروسية في اقتحام المخاطر في طريقه إلى الكوفة في مقصورته: ضربت بها التيه ضرب القمار.

مدح ابن العميد:

بعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت له معه مساجلات. 

مدح عضد الدولة:

  ثم رحل إلى شيراز، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي.

معركة العودة:

ثم عاد من شيراز يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً. فاقتتل الفريقان حتى قتل أبو الطيب وابنه محسد وغلامه مفلح (354 هـ= 965 م) بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد. وفاتك هذا هو خال ضبة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة، وهي من سقطات المتنبي. وكان التمس منه خفارة لبعض الرجالة ليسلكوا به الطريق ويحموا عنه فلم يفعل، وقال معي سيفي ورمحي أخفّر. ويقال إن الذين خرجوا عليه من بني كلاب مع ضبة بن محمد العيني لما هجاه به: ما أنصف اليوم ضبُ. وكان الفرسان نحو خمسين فارساً، فقتل منهم جماعة وجرح جماعة وأثخن فيهم عدة، وقدرت الحرب من ضحوة إلى الأولى، ثم كلّ أبو الطيب وولده ومملوكه، فلما تطاول الأمر استرسل وظفروا به. فقتلوه وولده والمملوك. وأخذ جميع ما كان معه، ودفنوه في الموضع، وكان له قيمة كثيرة، ولم يكن طلبهم ما معه سوى نفسه. والذي تولى قتله منهم فاتك بن فراس بن بداد وكان قرابة لضبّة. ويقال أنه لما قرب منه فاتك كان معه عبد يقال له سراج، فقال له: يا سراج أخرج إليّ الدرع، فأخرجها ولبسها، وتهيأ للقتال، ثم قال هذه القصيدة.

أفرغ الدرع يا سراج وأبصر ما ترى اليوم ها هنا من قتال
فلئن رحت في المكر صريعا فأنعَ للعالمين كل الرجال 

  ثم قال له فاتك: قبحاً لهذه اللحية يا سبّاب. فقال فاتك ألست الذي تقول:

الخيل والليل والبيداء تعرفني والطعن والضرب والقرطاس والقلم

فقال أنا عند ذاك يابن اللخناء العفلاء. ثم قاتل وبطح نفساً أو نفسين، فخانته قوائم فرسه، فغاصت إحداها في ثقبة كانت في الأرض، فتمكن منه الفرسان وأحاطوا به وقتلوه واقتسموا ماله ورحله، وأخذوا ابنه المحسّد وأرادوا أن يستبقوه، فقال أحدهم لا تفعلوا، واقتلوه، فقتلوه. وحكى الشريف ناصر قال: عبرت على بدنه وكان مفروقاً بينه وبين رأسه، ورأيت الزنابير تدخل في فيه وتخرج من حلقه. أعاذنا الله من كل سوء ومكروه بمنّه وطوله. وكتب في سنة ثلث وثمانين وأربع مائة.


عصر أبي الطيب:

شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي. كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحاً وتصريحاً حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في اللاذقية، فلم يستمع له وإنما أجابه مصرا ً: أبا عبد الإله معاذ أني. إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن.

نسب شريف:

في نسب أبو الطيب خلاف، إذ قيل أنه ابن سقاء كان يسقي الماء بالكوفة، وقيل أنه ابن عائلة فقيرة، وقيل أن أصوله من كندة، وهم ملوك يمنيون. ودس خصومه في نسبه، لكن الأستاذ الشاعر محمد السويدي يرجح أن نسب أبو الطيب نسب شريف، واستدل على ذلك بالتحاقه في مدرسة الأشراف العلويين وهو صغير.

8:34 ص
يتم التشغيل بواسطة Blogger.