الأربعاء، 10 أبريل 2013
3:26 ص

المتنبي عبقرية خالدة



رغم تجدد الأشكال الشعرية واختلاف حديثها عن شكلها التقليدي، يظل المتنبي حاضرا ضمنا وعلنا، مقتبسا أو مستلهما في شعر الشعراء على مدى الأزمنة، وإن حاول البعض تجاوزه يأتي ذكره من ناحية الرؤى النقدية، وكان للأديب السعودي الراحل د.غازي القصيبي طرحه الصريح في نظرته للمتنبي من خلال ما كتبه في صحيفة «الحياة» السعودية ضمن تحقيق حول المتنبي بعنوان «شاعر المتناقضات و (الأنا) النرجسية»، والتي جاءت كالتالي:
المتنبي في مجلس سيف الدولة، وقد اشترط عليه الا ينشده الشعر إلا جالسا وألا يقبّل الأرض حين دخوله عليه.
في نهاية العصر العباسي الأول تحول الخليفة إلى رمز لا حول له ولا قوة «خليفة في قفص» كما يقول الشطر الشهير. وانتقلت السلطة السياسية إلى دويلات تتقاسم العالم العربي، ويمتد نفوذها وينحسر بحسب الأحوال وحسب مواهب الحاكم وقدراته.
لم يعد هناك بلاط واحد يقصده الشعراء بحثا عن المال والمجد وتعددت القصور بتعدد السلالات الحاكمة. اضطر الشعراء إلى مواجهة هذا الوضع الجديد، لم يكن من سبيل أمامهم سوى أن ينتقلوا من حاكم دويلة إلى حاكم دويلة عارضين خدماتهم على من يريد شراءها. وهكذا تحول الشعراء- الموظفون الكبار المثبتون على وظائف في بلاط أمير المؤمنين- إلى أجراء يبحثون عن رب العمل السخي كما يبحث البدو الرحل عن المطر.

الغلو في المديح
كل خصائص الشعر العباسي في مرحلته الذهبية تبدو لنا في شعر الشعراء- الأجراء، إلا أنها تبدو مصابة بتضخم شبيه بمرض الفيل.
الغلو في المديح أصبح القاعدة الرئيسة التي تقاس بها جودة الشعر، ويكفي هنا أن أشير إلى هذا البيت «البشع» لا أجد كلمة أخرى، للمتنبي: 

لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران

الغزل في الغلمان أصبح القاعدة العامة التي لا يخرج عنها سوى القلة. زاد شعر الهجاء بذاءة وفحشا كما زاد شعر المجون مجونا.

شعراء الكدية!
ظهر صنف جديد من الشعراء لم يعرف من قبل وهم «شعراء الكدية» أو التسول، ولجأ هؤلاء إلى سلاح الابتزاز. إذا لم يصلحوا على ما يريدون مقابل المديح لجأوا إلى هجاء مقزز في إسفافه.
اتجه الشاعر- الأجير- شأنه شأن الأجراء في كل زمان ومكان إلى أكثر أرباب العمل سخاء وأصر أصحاب العمل – مثل شيلوك في تاجر البندقية – على أن يتقاضوا مقابل ما دفعوه، ولنا هنا أن نتذكر أن المتنبي تلقى مقابل قصيدة من أفضل قصائده ديناراً واحداً. ودخلت القصيدة التاريخ تحمل هذا الاسم: «القصيدة الدينارية».. حقيقة الأمر أن المتنبي صور الكابوس الذي عاناه الشعراء في هذه الحقبة بدقة تتركنا – وجهاً لوجه – أمام الكابوس.

الشاعر الملك
حاول المتنبي أن يكون شاعراً- ملكاً – هل يوجد سبب آخر يفسر إصراره المستميت على ولاية؟ - ولم ينجح. وحاول أن يكون شاعراً- فارساً- ولم يوفق. جرب وظيفة في بلاط سيف الدولة الا أنه ما لبث أن ملها. كان المتنبي – شاء عاشقوه أو كرهوا – شاعراً- أجيراً- يتنقل بين مختلف أصحاب العمل. كانت النقمة المتأججة على هوان الشاعر- الأجير- هي الدافع الذي قاد حياة شاعرنا الصاخبة إلى نهايتها الدامية. الشاعر الذي فشل في أن يكون ملكاً. مات وهو يقاتل كالملوك ولسان حاله يردد:

وفؤادي من الملوك ...  وإن كان/لساني يُرى من الشعراء

لولا كبرياء المتنبي الشهيرة لقال «من الأجراء» ولعل هذا هو المعنى الذي كان في بطن الشاعر. لم يكن ليخطر ببال الشاعر الجاهلي أن هناك فرقاً يذكر بين الشاعر والملك، إلا أن دوام الحال من المحال.

تناغم المتنبي مع النفس البشرية
لا بد لنا هنا من أن نتوقف قليلاً عند ظاهرة المتنبي ما الذي حول شاعراً/ أجيراً إلى أعظم شعراء العربية في نظر البعض والى واحد من أعظمهم في نظر الجميع؟ وما الذي يجعل منه، في أيامنا هذه أكثر معاصرة من معظم المعاصرين؟ ولماذا يروي الناس حتى العامة منهم، أبياته من المحيط إلى الخليج؟ كتبت آلاف الرسائل والبحوث عن المتنبي، ولا تزال تكتب، ومن المستحيل في عجالة كهذه أن أضيف جديدا وإن كان بوسعي أن أدلي بدلوي في الدلاء.
كان المتنبي ككل شاعر عظيم قادرا على تصوير النفس البشرية مجردة من قيود الزمان والمكان، لم يكن يصور ضياعه وحده، ولكن ضياع كل إنسان حين قال: «على قلق كأن الريح تحتي/ أوجهها جنوباً أو شمالاً».
ولم يكن يتحدث عن النهاية المأساوية لحب مر به شخصياً بل عن النهاية الفاجعة لكل حب عبر التاريخ حين أعلن:

 نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال

وكان المتنبي يعبر عن شعور كل من جرب هوان الرياء عندما قال: «ومن نكد الدنيا على الحُرّ أن يرى/ عدواً له ما من صداقته بد».

التحرّق إلى الأمجاد
إلا أن المتنبي بجانب تناغمه مع النفس البشرية المجردة، كان يملك حاسة سادسة، لا نعرف كيف ولماذا جاءت، جعلته وثيق الصلة بالنفس العربية، تحديدا، وبكل همومها وتطلعاتها (ولعل هـذا ما قـصده الأستاذ إبراهيم العريض حين اعتبره ابن العربية «البكر»).
عبر المتنبي بصدق عن ظمأ هذه النفس المتحرقة إلى الأمجاد. وسخر من قيادات زمنه: الأصنام التي لا تحمل عفة الأصنام، والأرانب النائمة بعيون مفتوحة، ووصف باحتقار الشعوب الخانعة التي ترعى وكأنها قطعان غنم. وتحدث بوجع عن عيش الذليل الذي يتحول إلى موت أسوأ من الموت الحقيقي. ولم يتورع عن وصف الأمة بأسرها بأنها أضحوكة الأمم. هل يستطيع عربي معاصر أن ينكر أن هذه المشاهد العربية الأليمة لا تزال أمامنا بعد أكثر من ألف سنة من رحيل الشاعر؟ وهل يستطيع أحد أن ينكر أنه لا يوجد بين الشعراء المعاصرين من عبر عن الفجيعة إزاء هذه المشاهد تعبيرا يرقى إلى مستوى المتنبي؟

عبدالله بن حمد الحقيل 
التالي
هذا احدت موضوع.
رسالة أقدم

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.